كلية المنار للدراسات الإنسانية

التربية والتعليم لدى الحركة الإصلاحية في جنوب الجزائر

د.قاسم بن أحمد الشيخ بالحاج

الاثنين 12 ديسمبر 2012

493

0

التربية والتعليم لدى الحركة الإصلاحية في جنوب الجزائر

تمهيد:

    كان حال التعليم في الجزائر عموما خلال القرن التاسع عشر، وإلى مطلع القرن العشرين تعليما تقليديا في عمومه يعتمد على نظام الكتاتيب أو ما يعرف بالمحاضر في جنوب الجزائر بوادي ميزاب، إلى جانب جهود بعض المشايخ الذين سمحت لهم الظروف للسفر وتحصيل العلوم والمعارف في المعاهد العلمية الإسلامية المجاورة، ففتحوا لأنفسهم دورا للعلم خاصة بالطلبة، وحلقات في المساجد لعموم الناس.

بقي هذا التعليم على حاله من حيث النوعية، فلم يشهد تطورا واضحا أو تحسنا معتبرا، فلم يعرف إدارة مسيرة، ولا مداومة منتظمة للطلاب، كما لم يعرف استقرارا في البرامج والمناهج والمواد المدرسة، ولا تدرجا في مستويات الطلبة وطبقاتهم، إلا ما نذر من دور المشايخ الذين اعتنوا بحلقاتهم وجعلوا منها معاهد علمية بحق، ونستطيع أن نمثل على ذلك بمعهد قطب الأيمة الشيخ امحمد اطفيش في بلدة بني يزقن بغرداية.

إلا أن ما ينبغي تسجيله والتأكيد عليه أن هذا التعليم بالرغم من بساطته وعفويته قد عمل على غرس القيم الدينية في المجتمع، وحافظ على أصالته وهويته العربية الإسلامية، كما عمل على نشر الحد الأدنى من العلوم الدينية المتعلقة بالفقه وأصول الدين، وعلم أبجديات اللغة العربية.

كما يسجل على هذا التعليم انحصاره على طائفة من الناس دون الشريحة العريضة منهم، مما جعل المجتمع في عمومه يبقى يعاني من الأمية والجهل. أضف إلى ذلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي جعلت من عموم أفراد المجتمع لا يبالون بأهمية العلم، بل يصرفون أبناءهم عنه في سن مبكرة إلى مختلف الأشغال والأعمال من فلاحة وتجارة وحرف([1]).

كما أن المرأة في هذا النمط من التعليم لم يلتفت إليها كثيرا، ولم يكن المجتمع يرى ضرورة لتعلمها، فلم تنل إلا النزر القليل الذي يمكنها من حفظ بعض سور القرآن الكريم، ومعرفة ما يجب أن يعلم من دينها وطهارتها بالضرورة.

هذا عن التعليم العربي، في مقابل ذلك فإن السلطات الاستعمارية الفرنسية بعد إلحاقها لمنطقة ميزاب بحكمها العسكري سنة 1882م، أوجدت بعد مدة ما يسمى بالتعليم الفرنسي، حيث شرعت في فتح مدارس ابتدائية لها في كل قرى وادي ميزاب، بغرض نشر ثقافتها بين الأهالي، ومن خلال ذلك تسريب أفكارها إلى الناشئة، وتمرير سياساتها الاستعمارية في المجتمع، التي من أساسياتها طمس معالم الشخصية العربية الإسلامية في الأجيال الصاعدة([2]).

أدرك الأهالي خطورة هذه السياسة الاستعمارية، وتنبهوا للأهداف الخفية للمستعمر وراء حرصه على فتح هذه المدارس وإجبار أبنائهم للالتحاق بها، هذا ما جعلهم يمتنعون عن تسجيل أبنائهم فيها، ويهربونهم إلى مدن الشمال عند اقتراب كل موعد دراسي.

كما رخصت السلطات الاستعمارية بفتح مدارس للآباء البيض لتعليم الحرف والمهارات الصناعات والفنون العصرية للفتيان والفتيات. ولاقت هذه المدارس بدورها معارضة شديدة من الأهالي ومن المشايخ الذين كانوا يحذرون الناس من إلحاق أبنائهم وبناتهم بها، ويرون فيها وكرا لنشر المسيحية والتبشير ومحاربة الإسلام([3]).

هكذا وجدت الحركة الإصلاحية([4]) حال التعليم مع مطلع القرن العشرين حينما وصل دورها لتحمل أمانة الإصلاح والنهضة وبناء الأنفس والعقول، ففيم تتمثل الجهود التي بذلتها للنهوض بمجال التربية والتعليم؟، وفيم تتمثل فلسفتها في مجال التعليم؟، وما هي الأهداف التي رمت لبلوغها؟، وما هي الأبعاد التي راعتها في العملية التربوية التعليمية؟.

 أولا: الفلسفة التربوية التعليمية

من الأفكار التي اقتنع بها مشايخ الحركة الإصلاحية منذ الوهلة الأولى لنشاطهم أن نهضتهم لا يمكن لها أن تتمكن من النفوس، وأن إصلاحهم لا يمكن له أن ينغرس في القلوب، إلا إذا قام على قاعدتين متينتين وسار برجليين قويتين، وعمل بالتوازي على جبهتين عريضتين هما:

ـ الإصلاح الديني الاجتماعي لرعاية الجيل الراهن.

ـ الإصلاح التربوي التعليمي لإعداد الجيل الصاعد ([5]).

إن وضوح هذه الرؤية لدى أقطاب الحركة الإصلاحية، ورسوخ هذه القناعة لديهم جعلاهم يتوجهون بقوة لخدمة هذه الجبهة إضافة إلى الجبهة الاجتماعية، ويفرغون طاقاتهم في سبيل رعاية الجيل الصاعد، وإعداده لتحمل المسؤولية من بعدهم، وتكوينه تكوينا متزنا يجمع بين التربية والتعليم، وبين العلم والعمل، وبين حياة الفرد وحياة الجماعة.

فسعوا إلى فتح مدارس قرآنية كثيرة وبناء هياكلها وتطوير برامجها وضبط مناهجها وإعداد الكوادر لها، كما ركزوا جهودهم وطاقاتهم في معهد الحياة الثانوي الذي يعد باكورة المشاريع التربوية التي أخرجتها الحركة الإصلاحية إلى الوجود.

يقول الشيخ بيوض: « عرفنا منذ زمن بعيد أن لا إصلاح للوطن إلا بالعلم الصحيح، فدرجنا في سبيله وضحينا فيه بكل عزيز»([6]).

نظروا إلى هذا الجيل نظرة إشفاق وحب وأمل، لكونه هو من سيتولى الخلافة من بعدهم، ويعينهم على حمل مشاق الإصلاح والدعوة وأتعابهما، وهو الذي سيكمل المشوار الذي انطلقوا فيه، ويسير به خطوات إلى الأمام.

يقول الشيخ عبد الرحمن بكلي: « تثقيف النشء وتنشئته على العلم والفضيلة واجب، لأنهم خلفاؤنا بعدنا، يتمون ما شرعنا، ويعلون ما أسسنا، بل هم ودائع بأيدينا وأمانات»([7]).

من جهة أخرى فهم أعلام الإصلاح أن أصل مشكلة التخلف والهوان التي يعاني منها المجتمع والركون الذي يحياه، إنما مرده إلى إشكاليات فكرية على مستوى المفاهيم والتصورات التي تحملها العقول عن الدين وعن الحياة، وأن العمل والاجتهاد على تغيير تلك التصورات وتصحيح تلك المفاهيم في الأجيال الصاعدة على مستوى المدى المتوسط والبعيد سيسمح بتغيير الكثير من الأوضاع وتحسين الكثير من الأمور نحو الصلاح والفلاح.

يقول الشيخ إبراهيم القرادي واصفا جهود الحركة الإصلاحية وزعيمها بقوله:  « فحركته كانت تهدف أساسا إلى تغيير المفاهيم وتصحيح التصورات»([8]).

اجتهدوا في وضع سياسة واضحة المعالم للنهوض بالعملية التربوية التعليمية، ورسموا لها خطة محكمة الجوانب، مضبوطة الخطوات والمراحل، وسطروا لها البرامج والمقررات للقيام بمتطلبات هذه الأجيال الصاعدة التي لا تزال لبنة طرية بين أيديهم يستطيعون تطويعها وتشكيلها وفق ما يشاءون على المنهج القويم الذي فهموه وارتضوا التضحية من أجله.

كما رأى أعلام الإصلاح في عملهم هذا أنه حلقة في سلسلة ضمن الجهود الجبارة التي بذلها من سبقهم من علمائهم ومشايخهم طوال قرنين من الزمن، وهي تعد الحلقة المهمة والمرحلة النوعية في هذه المسيرة؛ نظرا لما يحيط بهم من ظروف صعبة، ولما يحفهم من تحديات داخلية وخارجية خطيرة، لا تسمح لهم بالتردد أو التأخر أو التولي عن الزحف، حتى يتمكنوا فعلا من تنشئة الجيل المنشود الذي يستطيع أن يحمل مشعل الحضارة، ويقضي على التخلف، ويطرد المستعمر، ويبني أركان المجتمع الإسلامي الأصيل والمعاصر.

يقول الشيخ بيوض عن هذا التواصل والاستمرارية بين الأجيال: « فنهضتنا اليوم استمرار للنهضة الدينية والعلمية التي بدأها الشيخ الأفضلي والشيخ الثميني ورفع لواءها بعدهما شيخنا اطفيش رحمهم الله جميعا»([9]).

من خلال تتبعنا للمسيرة التربوية التعليمية للحركة الإصلاحية نستطيع أن نحدد جهودها في المجالات الآتية:

ـ توعية الناس بأهمية التعليم لإلحاق أبنائهم به وعدم قطعهم على الدراسة وسط الطريق، وعدم الزهد في طلب العلم

ـ الدعوة إلى الإنفاق على التعليم لأجل بناء المدارس وإيواء الطلبة وصرف أجور المعلمين.

ـ بناء المدارس العصرية العربية النظامية الحرة.

ـ تطوير التعليم العربي بشقيه الابتدائي والثانوي.

ـ إنشاء معهد الحياة للتعليم الثانوي.

ـ إرسال البعثات العلمية إلى الخارج والعناية بها وتأطيرها.

ـ إنشاء الجمعيات الخيرية المساندة مسيرة التعليم.

ـ رد شبه ودعاية تيار المعارضة الذي وقف ضد هذا التعليم.

ـ مجابهة الاستعمار الذي عمل على خنق هذا التعليم وعرقلة أصحابه.

ـ دعوة الجماهير إلى إلحاق أبنائهم بالتعليم الفرنسي وإنهاء مقاطعته.

ـ المطالبة بتطوير التعليم الفرنسي وتوسيع نطاقه والمساهمة في بناء مرافقه([10]).

كما أن الوقوف على خطاب الحركة الإصلاحية وتحليل أدبياتها وفهم فلسفتها يجعلنا نقول إنها قد رمت إلى تحقيق غايات سامية وبلوغ أهداف نبيلة من خلال مدارسها ومعهد الحياة الثانوي نستطيع أن نجملها فيما يلي:

ثانيا: الأهداف التربوية التعليمية

لا شك أن الأهداف التي سطرتها الحركة الإصلاحية لمنهجها التربوي التعليمي ستكون مندرجة ضمن الأهداف العامة للعملية الإصلاحية، وهي مستمدة من روحها وتخدمها وتصب في مجراها في الأخير، لأن العمل التربوي التعليمي هو جزء من الإصلاح الشامل.

لذا فإننا نستطيع أن نحدد هذه الأهداف فيما يلي:

ـ إخراج المجتمع من دائرة التخلف على المدى المتوسط والبعيد عن طريق إعداد الجيل الصاعد وتكوينه تكوينا متكاملا متزنا يجمع بين متطلبات الروح والعقل والنفس والجسد.

ـ إعداد القيادات والنخب التي ستتولى تحمل أمانة الإصلاح ومواصلة مسيرته.

ـ إعداد الفرد الصالح المتحضر الذي يجمع بين العلم والخلق، وبين الأصالة والمعاصرة، ويتخذ من الدنيا غرسا للآخرة.

ـ غرس القيم الحضارية الإسلامية في نفوس الناشئة والأجيال الصاعدة.

ـ نشر العلم والثقافة والمعرفة في شرائح المجتمع.

ـ محاصرة الأمية والجهل والإقلال من نسبتهما.

ـ محاربة الجمود والتعصب والتزمت، التي كان الجهل وراءها.

ـ تكوين جيل صالح يسهم في نهضة الجزائر والعالم الإسلامي.

نورد الآن كلام الشيخ عدون شريفي موضحا الأهداف التربوية التعليمية في معهد الحياة إجمالا بقوله: « إن الغاية التي يجب أن يجعلها المتعلم نصب عينيه نوعان:

عامة: هي طلب رضا الله، وشرف العلم نفسه، ونفي الجهل عنه.

خاصة: هي تكوين الملكات العلمية في مختلف الفنون وتثقيف العقل، وتنوير الذهن، وتربية النفس تربية صحيحة وإعدادها لتحمل قسط من عبء الإصلاح الديني والملي والوطني» ([11]).

ويضبطها الدكتور محمد ناصر في ما يلي:

« أولا: إن العلم في حد ذاته عبادة ينبغي أن يتوجه إليها المسلم بنية صافية طالبا فيه رضى الله وحده...

ثانيا: إن العلم وسيلة لغايات نبيلة يخدم بها المتعلم نفسه، ويخدم غيره، فهو يخدم نفسه بتثقيف عقله وتنوير ذهنه وتربية نفسه، ومن خلال كل ذلك يعد نفسه لخدمة غيره في مجالات الإصلاح الخيرية.

ثالثا: إن العلم وسيلة كفاح ومقاومة، وسلاح لإثبات الذات في حربها ضد الوجود الفرنسي في الميدان الديني والملي والوطني» ([12]). 

بينما يحددها الباحث نور الدين سكحال في هدفين هما:

« ـ تكوين نخبة مثقفة راشدة...

ـ تحصين عامة المجتمع من الأفكار الدخيلة والمحافظة على مقومات الشخصية العربية الإسلامية فيهم» ([13]).

هذا عن الأهداف إلى جانب ذلك فإن الحركة الإصلاحية راعت في عمليتها التربوية التعليمية في معهد الحياة أبعادا ركزت جهودها عليها، ورأت أنها - في مفهومها - لا تتم إلا باستيفاء هذه الجوانب، وإلا كانت ناقصة غير متزنة ومخلة، وإن إهمال بعضها قد يؤدي إلى انحراف في تربية الجيل وتقصير في القيام بحقوقه.

ففيم تتمثل هذه الأبعاد؟

ثالثا: الأبعاد التربوية التعليمية

إذا عدنا إلى مسار التربية والتعليم في معهد الحياة وكذا في المدارس القرآنية وتصفحنا البرامج والمقررات نستطيع أن نخلص أن الحركة الإصلاحية راهنت على الأبعاد الآتية:

ـ البعد العقدي

ـ البعد الأخلاقي

ـ البعد العلمي

ـ البعد الاجتماعي

أ ـ البعد العقدي:

رأى مشايخ الحركة الإصلاحية المؤسسون لمعهد الحياة أن عملية التربية والتعليم لا بد أن تقوم وتؤسس على الجانب العقدي الإيماني للفرد، بحيث تنال الناشئة تكوينا مفعما بدروس العقيدة، التي تزودهم بنظرة واضحة مقنعة عن الخالق وعن الكون وعن وظيفة الإنسان فيه، وعن معنى الحياة، وعن الرسل والرسائل وعن اليوم الآخر وعن الثواب والعقاب وعن الجنة والنار.

فتعمل على غرس هذه المبادئ والمعاني في قلوبهم والتأكيد عليها لأنها هي التي ستبني فيهم الشخصية الإسلامية القوية التي تمكنهم من ربط أي تفكير وأي عمل لهم في مستقبل حياتهم بطريق الله تعالى، وبنهج نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام.

ولتجسيد ذلك تقتضي العملية التربوية التعليمية أن يسري البعد العقدي في كل المواد المدرسة وأثناء كل الحصص، فيحرص الأستاذ والمعلم أن يكشف لتلاميذه علاقة موضوع الدرس بالجانب الإيماني، ويجعلهم يتأثرون بذلك ويربط قلوبهم به([14]).

يقول الشيخ بيوض موجها كلامه للمعلمين وللمربين وموضحا لهم منهج التربية الدينية العقدية: «فلا تربية تنفع في إصلاح سلوك الإنسان وتحقيق سلامة قلبه إلا إذا كانت مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، فاملأ أيها المربي المسلم قلوب ناشئتك ما استطعت بجلال الله ومحبته، والرغبة في نعيمه ورضوانه والخوف من عذابه ونقمته» ([15]).

ويقول الشيخ عدون شريفي موضحا ذلك بقوله: «الغرض من التعليم في معهد الحياة... هو التربية الدينية بأوسع معانيها، وذلك بالتركيز على معرفة الله حق المعرفة، والإيمان به إيمانا يبعث على العمل الصالح والسلوك الحسن، والخلق الفاضل»([16]).

في هذا الصدد نجد الشيخ بيوض ينتقد منهج المنظومة التربوية بعد الاستقلال عندما أهملت هذا الجانب من مقرراتها وبرامجها، ففصلت مواد الدين والعقيدة عن سائر المواد، وجعلت التلاميذ يتعاملون مع نصوص الوحي قرانا وسنة كما يتعاملون مع أي نص أدبي آخر دون التأكيد والتركيز على بعده الإيماني وأثره العملي

يقول الشيخ بيوض: «أفنرضى لأبنائنا المسلمين أن يتعامل أحدهم مع نص القرآن أو الحديث كما يتعامل المسيحي أو الملحد؟ قصارى أمره أن يضبط من خلاله بعض قواعد الصرف أو النحو والبلاغة ثم هو لا يحرك فيه وجدانا ولا يقوده إلى معرفة الله ومحبة رسوله. اللهم لا»([17]).

كما يؤكد الشيخ بيوض على ضرورة إبراز الآثار العملية للعقيدة في الدروس وجعل التلاميذ يتأثرون بها ويندفعون إلى الأعمال ويتنافسون على فعل الخير، وانتقد الطريقة العقيمة التي تطرح بها العقيدة عند بعض المسلمين دعاة ومربين بتركيزهم على عالم الغيب فقط، على حساب عالم الشهادة الذي يغفلونه أو يستنقصون من العناية به، بينما يقتضي الأمر عكس ذلك([18]).

ب ـ البعد الأخلاقي:

البعد الثاني الذي أولته الحركة الإصلاحية الأهمية في عملها التربوي التعليمي في معهد الحياة والمدارس القرآنية هو الأخلاق، فهي ترى أن عملية التعليم هي تربية وتقويم للسلوك قبل أن تكون معارف وثقافات وعلوما، هذا ما جعلها ترفع في معهدها ومدارسها شعار التربية قبل الثقافة، وتغرس معاني هذا الشعار في نفوس أبنائها، وقد سعت لترجمة ذلك عمليا من خلال برامجها وإدارتها وأساتذتها ومعلميها.

فكانت تراقب الناشئة في أخلاقهم كما تراقبهم في تحصيل العلوم، وكانت تضبط سلوك التلاميذ في القسم وفي الشارع، وكثيرا ما يعاقب المعلم تلميذا أو طالبا باقترافه خطأ خلقيا خارج قاعة الدراسة، فتصل أنباؤه إلى الإدارة وإلى المشايخ فتعقد له مجلس تأديب، وتحكم عليه بعقاب أدبي أو جسدي.

كما كان عمدة مدارسها معلمين حازمين صارمين في مسألة التربية والتهذيب لا يتساهلون ولا يتراخون فيها، يتولون مراقبة التلاميذ ويقومون اعوجاجهم، ويوجهون أخلاقهم ويهذبون سلوكهم.

كما كان المعلم القدوة لأبنائه التلاميذ، في التزامه بالسمت الإسلامي وبالخلق الرفيع وبالحزم والجد في العمل والقيام بمهمته على أكمل وجه، حتى تنطبع شخصيته في نفوس تلاميذه ويؤثر فيهم ويعمل على بناء شخصيتهم.

يقول الدكتور محمد ناصر عن منهج التربية بالقدوة المعول عليه في العملية التربوية التعليمية: «القائمون على التعليم ...يختارون بعناية فائقة أساسها السلوك الحسن، والتمسك القوي بالدين الإسلامي عقيدة وقولا وعملا، وبذلك تضع المؤسسة أمام التلاميذ النموذج الذي ينبغي الاحتذاء حذوه، والمثل الذي يقتدي به. ومن المعلوم أن من قواعد التربية الإسلامية ما يطلق عليه التربية بالقدوة، كما علمنا القرآن الكريم »([19]).

لهذا كانت الأسرة في وادي ميزاب تضع كل ثقتها في هؤلاء المعلمين، وتعتبرهم الأب الثاني القائم بدور المربي والناصح الأمين، فيتعاون الطرفان على تربية النشء، وتنشأ بينهما علاقات وطيدة للقيام بالمهمة كما ينبغي.

بذلك تنال شخصية التلميذ والطالب حظها من التربية والتقويم والتهذيب، فتغرس في نفسه القدوة الحسنة التي يعاينها أمامه يوميا وعمليا في شيخه ومعلمه، فتنشأ على تلك الطباع الحسنة والأخلاق القويمة.

ج ـ البعد العلمي:

إلى جانب تلك العناية الفائقة التي أولتها العملية التربية بغرس الإيمان بالله تعالى وحب رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام في نفوس الناشئة والحث على الآثار العملية لذلك، وإلى جانب الصرامة في مراقبة أخلاق التلاميذ وتقويم سلوكهم وتنشئتهم على الخصال الإسلامية الحميدة فإن ذلك لم يكن على حساب التكوين العلمي والمعرفي لهم، فقد سعت الحركة الإصلاحية على تزويد أبنائها في مدارسها وفي  معهد الحياة بزاد علمي متنوع وثري، وتدرجت معهم من المستويات الدنيا إلى العليا، فمكنت التلاميذ والطلبة من تكوين رصين في علوم اللغة العربية وآدابها من نحو وصرف وبلاغة وأدب وشعر، وزودتهم بقسط وافر من العلوم الشرعية تدرجت فيه معهم من السهل البسيط إلى المعمق الصعب؛ من علوم العقيدة والفقه والتفسير والحديث والأصول والسيرة، كما تفتحت على العلوم العصرية الحديثة من حساب ورياضيات وجغرافيا وتاريخ وعلوم إنسانية ونالت حظها منها.

هذا ما مكنها في نهاية المطاف من تخريج طلبة يحملون ثقافة ثرية وعلوما متنوعة، ويتحكمون في فنون اللغة العربية والعلوم الشرعية، مما مكنهم من الالتحاق بالمعاهد العليا خارج الوطن في التخصصات الشرعية والأدبية والعلمية التي اختارها كل واحد منهم وكانت ميوله تتجه إليها. فتخرج من طلبة معهد الحياة في الجامعات الشرقية والغربية دكاترة وأساتذة وأدباء وشعراء ومحامون ومهندسون وأطباء يحملون أعلى الشهادات.

 كما دأبت الحركة الإصلاحية بين الفترة والأخرى إلى مراجعة برامجها وتطوير مناهجها وتحديث أساليب تدريسها كلما رأت الضرورة تتطلب ذلك([20]).

كما كانت تضم إلى طاقمها الإداري والتعليمي نخبة من الأساتذة الأكفاء الذين أتموا تكوينهم في المعاهد والجامعات وعادوا إلى وادي ميزاب، فكانوا أولى ثمرات جهودها في المجال التربوي التعليمي فزادوها قوة ونشاطا وثراء بتجاربهم وتكوينهم وحملوا لواء العلم والإصلاح معها([21]).

د - البعد الاجتماعي العملي:

الجانب الرابع الذي أولته الحركة الإصلاحية أهمية في تكوين ناشئتها في مدارسها ومعهدها وترسيخه في عقولها هو البعد الاجتماعي العملي، الذي تعني به ربط الطالب بالدور الاجتماعي الذي ينتظره بعد الفراغ من مزاولة دراسته وإتمام تكوينه، بأن يعلم أن وظائف اجتماعية تنتظره في الميدان، وأنه لا بد أن يعد نفسه ويبرمج عقله لها من الآن، فهو سيصبح في القريب العاجل معلما أو أستاذا أو موظفا أو عاملا في أي مجال من مجالات الحياة ، فإن المجتمع ينتظر منه القيادة والتوجيه والنصح والعمل على إصلاح أوضاعه والنشاط التطوعي داخل صفوفه وشرائحه، وأنه لا طائل من علمه إذا بقي بصاحبه في برجه العاجي، أو اكتفى بوظيفته التي يرتزق منها، ولم يسهم بأي دور أو جهد في الحياة الاجتماعية العامة، التي كان لها الفضل في تكوينه وتربيته وتعليمه.

لأجل تجسيد هذه المعاني رفع أعلام الإصلاح في معهد الحياة شعارا هو: مصلحة الجماعة قبل مصلحة الفرد، وأفهموا أبناءهم أن تكوينهم هذا لا بد في الأخير أو يعود بالنفع على المجتمع، وأن يجعلوا نصب أعينهم خدمة أفراد مجتمعهم، والتضحية في سبيل إصلاح أوضاعهم، وتقديم النصح لهم، وأن يكون ذلك مقدما على مصالحهم الذاتية الشخصية.

دأب رجال الإصلاح وعلى رأسهم الشيخ بيوض والشيخ عدون على تنشئة أبنائهم وطلبتهم على حب الوظيفة الاجتماعية التي تنتظرهم وأنها تعد من جوهر تعلمهم وتكوينهم.

يقول الشيخ بيوض في خطاب موجه لطلبته: «اقتحموا ميادين الإصلاح، فضوا المشاكل بالحلول المرضية، وسووا الخلافات بالعدل والحكمة، فإنكم بذلك تفرضون وجودكم، وتعرفون بأنفسكم، وتحملون الناس على احترامكم، وتعلمون الأمة كيف تنقاد للمثقفين»([22]).

لأجل إعداد الطلبة في هذا الجانب فإن مؤسسات التعليم وبخاصة معهد الحياة  أوجدت بداخلها جوا اجتماعيا وثقافيا مفعما بالنشاط والحيوية وفرص التكوين وتفتيق المواهب واكتشاف المهارات، مما يسمح للطالب أن يدرب نفسه للمهمة الاجتماعية التي ستناط به مستقبلا.

كلف أعلام الإصلاح طلبتهم بأنشطة اجتماعية كثيرة ومتنوعة فكانوا العمدة في إحياء حفلات الأعراس والمناسبات الدينية والوطنية بالأناشيد والمدائح الدينية والخطب والمسرحيات والفن الأصيل، كما كانت لهم داخل معهد الحياة نواد أسبوعية للتباري بالشعر والخطب والقصائد، فشكلوا فرقا فنية ومسرحية وأدبية متنافسة فيما بينهما.

في جانب آخر من الإعداد الاجتماعي كان الطلبة يكلفون بالقيام بكل الخدمات المنزلية الخاصة بهم في إقامتهم، من النظافة والغسل والطبخ وجلب الماء حتى يتعودوا الاتكال على أنفسهم وتحمل مسؤولياتهم والحزم والخشونة في العيش، كما أنشئت لهم منظمة كشفية تدربهم على الأعمال التطوعية والرياضة الجسدية([23]).

هذه هي الأبعاد التي راهنت عليها الحركة الإصلاحية في تنشئة أبنائها وأجيالها الصاعدة التي كانت تعدها لحمل أمانة الاستخلاف، وتسلم المقود من بعدها وهذه هي فلسفتها في التربية والتعليم التي جسدتها من خلال معهد الحياة ومختلف المدارس القرآنية، ولعل تميزها يكمن في مراهنتها على الجمع بين هذه الأبعاد الأربعة، بتكوين شخصية الطالب في بعدها الديني والعلمي والأخلاقي والاجتماعي.

ونستطيع أن نقول إن الحركة الإصلاحية قد نجحت إلى حد بعيد في سياستها التربوية هذه واستطاعت أن تخرج دفعات وأجيالا متعاقبة لأزيد من نصف قرن من الزمن ولا تزال إلى حد اليوم، واستطاعت أن تنجح إلى حد بعيد في تكوين نخبها وإعداد أجيالها بمراعاتها لهذه الجوانب مجتمعة، وحققت بذلك الكثير من الأهداف التي سطرتها، فوسعت من مشروعها الإصلاحي من خلالهم، حيث نجح هؤلاء الطلبة في دراساتهم العليا بمختلف الجامعات بالخارج ومثلوا معهد الحياة وحركة الإصلاح وشرفوها كما قاموا بأدوار مهمة في الحياة الوطنية أثناء الثورة وبعد الاستقلال، كما استطاعت هذه الأجيال أن تعطي المثل الحسن في الجمع بين العلم والخلق والعمل، كما نجحت في تحقيق أهدافها بنزول هذه الدفعات المتخرجة والعائدة إلى أرض الوطن إلى الميادين الاجتماعية المختلفة للإصلاح، فكانت خير سند وعون للجيل الأول من المشايخ والأعلام، فزادت قوة وتمكينا للنهضة الإصلاحية.

 

([1]): محمد علي دبوز: أعلام الإصلاح في الجزائر، ج5، ط1، دار البعث، قسنطينة، الجزائر،1403م\ 1982م، ص28- 29.

([2]): عبد الرحمن بكلي: مسيرة الإصلاح في جيل، نشر مكتبة البكري، المطبعة العربية، غرداية، 2004م ص174- 180.

([3]): يوسف الحاج سعيد: تاريخ بني مزاب، المطبعة العربية، غرداية، 1992م. ص183.

([4]): للاطلاع على جهود وأعلام الحركة الإصلاحية في وادي ميزاب تراجع الكتب الآتية: محمد علي دبوز: نهضة الجزائر الحديثة، محمد علي دبوز: أعلام الإصلاح في الجزائر، عبد الرحمن بكلي: مسيرة الإصلاح في جيل. قاسم الشيخ بالحاج: معالم النهضة الإصلاحية عند إباضية الجزائر، أطروحة دكتوراه، كلية العلوم الإسلامية الخروبة، الجزائر، السنة الجامعية: 2009 – 2010م.

([5]): محمد ناصر: مقال بعنوان: القيم الإسلامية في نظام التعليم بوادي ميزاب، مجلة الحياة، الصادرة عن معهد الحياة بالقرارة – الجزائر، عدد1، 1998،  ص70-71.

([6]):  دبوز: أعلام الإصلاح في الجزائر، ج4، ص72.

([7]): بكلي: مسيرة الإصلاح في جيل، ص25.

([8]): إبراهيم القرادي: كلمة تأبينية للشيخ بيوض، منشورة ضمن كتاب: في رحاب القرآن، مهرجان ختم تفسير القرآن الكريم،  ص65.

([9]): دبوز: أعلام الإصلاح في الجزائر، ج4، ص141.

([10]): دبوز: أعلام الإصلاح في الجزائر، ج5، 34- 65. بكلي: مسيرة الإصلاح في جيل، ص164- 182.

([11]): شريفي: معهد الحياة، ص57.

([12]): ناصر: مقال بعنوان: القيم الإسلامية في نظام التعليم بوادي ميزاب، مجلة الحياة، الصادرة عن معهد الحياة بالقرارة – الجزائر، عدد1، 1998م، ص72.

([13]): نور الدين سكحال: الشيخ إبراهيم بيوض ومنهجه في الإصلاح، 1899ﻫ \ 1980م، رسالة ماجستير، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، معهد أصول الدين، قسم الدعوة والإعلام، س ج: 1994- 1995م. ص67.

([14]): إبراهيم بيوض: حديث الشيخ الإمام ردا على بعض الشبهات والأوهام، إعداد وتنسيق: محمد إبراهيم سعيد كعباش، الحلقة الأولى، جمعية النهضة، غرداية، الجزائر، 1992م. ص22

([15]): بيوض: حديث الشيخ الإمام، حلقة1، ص22.

([16]): شريفي: معهد الحياة، ص68.

([17]): بيوض: حديث الشيخ الإمام، حلقة1، ص31.

([18]): إبراهيم بيوض: فتاوى الإمام الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر، ترتيب وتقديم وتخريج: بكير الشيخ بالحاج، المطبعة العربية، غرداية، 1988م. ج2، ص628- 629.

([19]): ناصر: مقال بعنوان: القيم الإسلامية في نظام التعليم بوادي ميزاب، مجلة الحياة، الصادرة عن معهد الحياة بالقرارة – الجزائر، ع1، 1998م، ص85.

([20]): مجموعة من الأساتذة: القانون الأساسي لوحدة التعليم العربي بميزاب (الجزائر) واللائحة الداخلية، دت.

([21]): يراجع في ذلك: شريفي: معهد الحياة، كله. دبوز: نهضة الجزائر الحديثة، ج3، كله.

([22]): محمد علي دبوز: نهضة الجزائر الحديثة، نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة، ج3، ط1، المطبعة العربية، 1389ﻫ\ 1969م. ج3، ص206.

([23]): يراجع في ذلك: شريفي: معهد الحياة، كله. دبوز: نهضة الجزائر الحديثة، ج3، كله.

أضف تعليقا