" الإيمان بالغيب " إن الإنسان مخلوق بهذه الخاصية الإدراكية، فما الاستقراء الناقص إلا صورة من صوره للتسليم العلمي لهذه الخاصية، والخيال الخصب هو شكل من أشكاله أيضا وهو ميزةٌ في الإنسان المبدع، وقد اشتُهر بالغيبيات المعتقدون بما وراء الطبيعة وما حولها، وقد عاب ذلك عليهم أصحاب المذهب المادي في وقت مضى.
والمؤمنون من أهل النحل السماوية يُصفهم القرآن الكريم بالذين يؤمنون بالغيب[1]، بيانا لفضلهم على غيرهم ممن قصَر نفسه على استجلاب الملذات المادية الآنية الحاضرة؛ فتحُلّ هذه الحالة في النفس نعمةً يستشعر بها المؤمن، فالثقة المطلقة والاستسلام دون شكّ وريب في صدق المخبِر والمخبَر عنه، نعمة قد لا نجد مثيلها في العلم بتاتا، لأن العلوم كلها تقف في نقطة الاستسلام وتتراجع.
وقد رُبط الإيمان بالغيب في أغلب نصوص الوحي بالمرسلين والكتب المنزّلة واليوم الآخر والجزاء ثوابا وعقابا، وكل ما أخبرت به عن عالم ما وراء الشهادة ليتمّ تصديقه تصديقا غيبيا لا يعتمد أبدًا على التجربة المادية.
غير أنه في اليوم الآخر ستصبح جميع هذه الغيبيات شهودا، تخضع للمعاينة والمعايشة والتجربة والحسّ؛ فهل يحتمل إدراك الإنسان فقدَ منطق " الإيمان بالغيب "، أفما يؤثر عليه سَلبًا فقدُ هذه الخاصية العظيمة؟؟ وهل سيفقدها فعلا ؟؟
إنّ النصوص القرآنية تشير إلى بقاء خاصية الإيمان بالغيب في الإنسان أثناء حياته الأخروية ﴿ أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ﴾ فالتعجب والسؤال ليس من عدم التصديق لأنهم لن يصلوا إلى هذا الثواب لو أنكروه قبلا في الحياة الدنيا، غير أنهم مقبلين على حياة لم يخبروها من قبل ولازالت غيبا عن إدراكهم الحسي، فبعض التعجّب بل التخوّف أكيد ﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ومع ضمان عدم التعرض للأذى والسوء في هذه الحياة، تأتي تفاصيلها متشابهة ﴿ وأتوا به متشابها ﴾ غير أن التشابه لم يك قصورا في قدرة الخالق على الخلق، بل هي خصيصةُ تجاوزِ المحسوس معطلةٌ في المخلوق له ﴿ لهم فيها مااشتهت أنفسهم ولهم فيها ما يدعون﴾ فلم يشته ذاك المسكين إلا ما قد خبِره وألِفه بحسه المادي، وإلا فإنه ﴿ لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ و النعيم المتجدد في الجنة بمثابة تغذية للخيال الخصب لدى الإنسان؛ فليسلم الإنسان وجهه للإيمان بالغيب حيثما تولىّ لأنه مفتاح السعادة في الدارين.
[1] والمضارعة للدلالة على تجدده ، فهو ليس بمعتقد جامد وإنما هو اعتقاد حيّ متجدد الأسباب.