كلية المنار للدراسات الإنسانية

الإعجاز الموضوعي في القرآن الكريم: مفهومه، خصائصه، أقسامه

د.قاسم بن أحمد الشيخ بالحاج

الأربعاء 01 جانفي 2013

2580

0

الإعجاز الموضوعي في القرآن الكريم: مفهومه، خصائصه، أقسامه

إذا كان الوجه الإعجازي الأول الذي وقف عليه المسلمون وأدركوا مكامنه، وكان طريقا لإيمانهم وتطمينا لقلوبهم وتثبيتا لأقدامهم على منهج الحق تمثل في الإعجاز البياني، الذي يعني الكشف عن فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، ومزايا أسلوبه وخصائص تعبيره، وفي صياغة عباراته وتركيب جمله وترتيب حروفه. فإن الوجه الإعجازي الثاني الذي اهتم به الباحثون والدارسون والمتمعنون في القرآن الكريم تمثل فيما يعرف بالإعجاز الموضوعي للقرآن الكريم، أو الإعجاز في المضمون القرآني.

لأجل بناء الإعجاز الموضوعي على الإعجاز البياني، وتوضيح الصلة بينهما نحتاج إلى ضبط تعريف الإعجاز البياني:

وضع له العلماء تعاريف عديدة ننقل منها التعريف الآتي:

يعرفه الدكتور مصطفى ديب البغا بقوله:  « هو إظهار صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة  ـ وهي القرآن ـ وعجز الأجيال بعدهم في ذلك»([1]).

ويمكن أن نضع له التعريف الآتي: « هو وسيلة النبي لإثبات صدق نبوته، وآيته على صحة مقولته، وعلامته على نسبة الرسالة إلى ربه، وإثبات المصدر الرباني لها. لوجود التحدي الذي رفعه الله تعالى في وجه المشركين وفطاحلة اللغة والبيان لديهم، في أن يأتوا بسورة مثله. فتحقق عجزهم في الاستجابة لهذا التحدي الذي بقي يرن في أسماعهم طوال فترة نزول الوحي وبعده، وبذلك تحقق الدليل القاطع على كونه الكلام الإلهي الساطع، المخالف لكلام البشر. فهو بذلك معجزة الله الخالدة»([2]).

لا يختلف اثنان أن الوجه الأول للإعجاز هو الذي كان سابقا، وهو الذي قصد به التحدي، وقصد به إثبات عجز الإنسان العربي الفصيح بالسليقة من إتيان مثل كلام الله تعالى المتمثل في القرآن الكريم.

إلا أن تطور العلوم وتراكم المعارف اقتضت من علماء الإسلام ومن الباحثين استثمار المخترعات العلمية وتطور البشرية وتقدم المعرفة للنظر والبحث في مضامين القرآن الكريم، والانتقال من الأسلوب إلى المضمون، أو البحث عن المضمون بناء على الأسلوب، والانتقال من الصورة والشكل والتركيب إلى المحتوى والمعنى والموضوع.

هذا ما جعل من موضوع إعجاز القرآن الكريم ينتقل خطوة نوعية للبحث في مضمون القرآن الكريم والكشف عن الأسرار والكنوز التي يحتويها.

فما مفهوم الإعجاز الموضوعي للقرآن الكريم؟، وما هي خصائصه؟، وما هي أقسامه؟، وما هي بعض الأمثلة عليه؟ 

* - تعريف الإعجاز الموضوعي للقرآن الكريم:

يقصد به تناول مضمون النص القرآني ومواضيعه، والبحث عن قضايا الإعجاز فيها، التي تكون من نوع الإخبار بالغيب، أو تضمن حقائق أثبتها العلم وأقر بها، أو احتوائه على قوانين ونظم وتشريعات، يعترف العقل البشري بقوتها وإبداعها وعمقها واستحالة توصل الإنسان إليها لحظة نزول الوحي، دون الاستناد إليه([3]).

كما ينبغي الإشارة أن الإعجاز الموضوعي يعتبر وجها من أوجه الإعجاز من باب التجوز، حيث أن من العلماء من أنكر أن يكون ذلك إعجازا، وقصر موضوع الإعجاز على جانب البيان والأسلوب واللفظ، وذلك تقيدا بالتعريف الدقيق للإعجاز، وللمدلول الإصطلاحي للكلمة. التي نصت على اشتراط التحدي وإثبات العجز.

قسم العلماء مجالات الإعجاز الموضوعي إلى ثلاثة أقسام كبيرة([4]).

ـ الإعجاز الغيبي.

ـ الإعجاز العلمي.

ـ الإعجاز التشريعي.

إلا أنه ينبغي الإشارة أن هذه التقسيمات تبقى دائما ظرفية وآنية، ومحكومة باجتهادات العلماء، حيث أن الأصل في الإعجاز الموضوعي للقرآن الكريم أن يبقى مفتوحا، ولا يمكن غلق بابه، ولا ضبط أقسامه بصفة نهائية، لأن ذلك مرهون أساسا بتطور العلوم والاكتشافات الإنسانية، التي هي في تقدم مستمر غير منقطع ولا متوقف. ولا شك أن صلاحية القرآن لكل زمان ومكان تقتضي تجدد أوجه الإعجاز فيه، وتنوعها واستجابتها لمتطلبات البشرية في كل عصر وآن.

 إلا أنه من جهة أخرى ينبغي أن يكون البحث في هذا المجال محكوما بجملة ضوابط وخصائص لا يمكن تجاوزها، أو التنازل عنها، حتى تسد أبواب التلاعب بالقرآن الكريم وبآياته المحكمات والمتشابهات، كما يسد الطريق أمام المتساهلين في تفسير الآيات وتأويلها وعدم الانضباط بقواعد التفسير ومناهجه وأدواته.

لذا سنأتي إلى عرض بعض الخصائص التي وضعها العلماء لضبط التفسير الموضوعي للقرآن الكريم وبيان مميزاته:

* خصائص الإعجاز الموضوعي:

كما أن أسلوب القرآن الكريم وتعابيره وبلاغته وألفاظه تميزت عن سائر كلام البشر بأوجه الإعجاز البياني التي أبان عنها العلماء، فكذلك للقرآن الكريم منهج منفرد متميز معجز في عرض موضوعاته، وبسط محتوياته.

تناول المفكر الإسلامي سيد قطب هذه الخصائص في تفسيره في ظلال القرآن وأجاد في اكتشافها واستخراجها والتعبير عنها.

يقول الأستاذ سيد قطب عن الإعجاز الموضوعي وخصائصه: « إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها. فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة. وحسها المستفز مرة. ولكنها يخاطبها جملة، ويخاطبها من أقصر طريق، ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها...

وينشئ بهذا الخطاب فيها تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق، وبهذا الشمول، وبهذه الدقة وهذا الوضوح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضا»([5]).

1- عرض الحقيقة القرآنية متماسكة شاملة:

يمتاز القرآن الكريم بكونه يعرض الحقيقة كما هي في الواقع، بحيث يستطيع الإنسان أن يفهمها ويعاينها بعقله أو بقلبه أو بجوارحه، حيث يكشف عليها القرآن الكريم من كل زواياها ومن كل جوانبها، ويبين كل ارتباطاتها ومقتضياتها. ومع هذا البسط والشمول لا تبدو الحقيقة القرآنية مملة أو مكرر أو معقدة، بل يشعر معها الإنسان المتلقي لها بإدراكها واستيعابها ووضوحها. فالقرآن بذلك يخاطب الكينونة البشرية في عمقها وفي كل مستوياتها.

وهذا ما لا يتأتى للإنسان، الذي يمكن أن يدرك مستوى معينا، وتغيب عليه المستويات الأخرى، أو يجيد إيصال خطابه لشريحة معينة، ويعجز عن إيصالها لشريحة أخرى تكون أعلى أو أدنى من الأولى، أو مخالفة لها في بعض الجوانب([6]).

لعل هذا ما يظهر في الروعة التي يشاهدها الإنسان في تفاعل المسلمين مع تلاوة القرآن الكريم رغم الاختلاف البين والشاسع والمتنوع في ثقافاتهم ولغاتهم وأجناسهم وأوطانهم تقاليدهم.

2- عرض الحقيقة متناسقة مترابطة:

النص القرآني منزه عن التجزئ والانقطاع والتمزق، الذي يظهر على النص البشري في كتاباته الأدبية أو العلمية أو الفلسفية؛ فهو يعرض الحقيقة في سياق موصول متناسق مرتبط بعضه ببعض، كأن يرتبط الحديث عن عالم الشهادة بالحديث عن عالم الغيب، والحديث عن الحياة الدنيا بالحديث عن المآل والثواب والعقاب، ويرتبط الحديث عن الكون والأجرام والنجوم بالحديث عن الإنسان والنبات والحيوان.

كل ذلك في أسلوب سلس تتعذر مجاراته أو تقليده، لأن العقل البشري قد يجيد الإبداع بتركيزه على جوانب والتخصص فيه، لكن ليس بوسعه أن يجمع بين عدة جوانب ويبدع فيها دفعة واحدة، ويجيد الانتقال بينها دون أن يحدث ذلك خللا في كتابته أو حديثه.

فعندما يكون تركيز النص القرآني على إبراز حقيقة الإنسان ودوره في الحياة، يتجلى فيها ارتباطها بحقيقة الألوهية والربوبية والتوحيد، وأثر ذلك على الكون والحياة، وعالم الغيب وعالم الشهادة على حد سواء([7]).

3- عرض الحقيقة متناسبة متوازنة:

مع تناسب الحقيقة القرآنية وتناسقها وشمولها، فإنها تحافظ على إعطاء كل موضوع فيها حجمه المستحق، وميزانه المناسب، ومساحته اللازمة في علم الله تعالى وتقديره.

فتبدو حقيقة الألوهية والعبودية والوحدانية في النص القرآني هي الجلية البارزة المقصودة بالدرجة الأولى، كما تبدو حقيقة الحياة الآخرة والمصير والمآل في الدرجة الثانية، ثم تأتي حقيقة الإنسان والكون والحياة الدنيا ومقتضاها، كل ذلك في تناسب وتوازن منقطع النظير، متميز، يعجز الإنسان على الإتيان بمثله.

فلا يُهمل جانب ولا يضيع معلم ولا يغيب طرف في عرض الحقائق القرآنية. 

4- عرض الحقيقة بصورة مؤثرة دافعة للعمل والالتزام:

يقدم المنهج القرآني حقائقه في قالب من القوة المؤثرة في الأنفس والداعية إلى العمل والتطبيق، مع الدقة والتحديد، وبذلك تحمل هذه الحقائق روعة وجمالا وإيقاعا خاصا بها، لا يوجد مثيله في التعبير البشري. كل ذلك في توازن واعتدال بين هذه الحقائق وقياسها بميزان الحق الإلهي وتقديره العادل المنصف، فلا تطغى الدقة على التأثير والحيوية، ولا يطغى التحديد على الإيقاع والجمال([8]).

5- عرض الحقيقة في مجالات جديدة:

لكون مصدر هذا القرآن هو الله تعالى، مالك الكون، وخالق الإنسان، وصاحب الكمال، فهو يعبر عن كماله في القرآن الكريم، ويشير إلى نعمائه وآلائه على البشر،  ويعرض صورا من قوته وملكوته، التي يعجز الإنسان على إدراكها أو بلوغها أو التفكير فيها، أو الحديث عنها لأنه غير قادر أن يحيى شيئا منها، أو حتى يصور فعله لها.

لذا انفرد القرآن الكريم بالحديث في مجالات خاصة بالله تعالى، دون سواه من الخلائق، وخاصة هذا الإنسان، الذي خلق بطاقة محدودة، وتحرك مرهون بالزمان والمكان والظروف والحال، وإذا انتفى منه بعض هذه الأوصاف أصبح أعجز العاجزين على فعل شيء أو التأثير فيه.

يصف الدكتور عدنان زرزور هذه الخاصية بقوله: « إننا الآن أمام ظاهرة فريدة امتزج فيها المضمون بالأسلوب، على نحو معجز.

أي أن الإعجاز هنا لم يكن من جهة النظم والبيان فحسب، ولا من جهة المضمون من حيث هو مضمون، ولكن من جهة المجال، الذي يعرض فيه هذا المضمون... والذي لا يرتاده الفكر البشري – كوسيلة من وسائل التعبير – عادة »([9]).

أما المفكر سيد قطب فيضع بين أيدينا صورة لعرض القرآن الكريم لحقائقه في مجالات جديدة في قول الله تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). سورة الأنعام، الأية: 59.

يقول في بيان هذه الخاصية: « إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط، الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض، ولا في طباق الجو، في حي وميت ويابس ورطب...

ولكن أين هذا الذي نقوله نحن ـ بأسلوبنا البشري المعهود ـ من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد من ذلك التصوير العميق الموحي؟

إنها جولة تدير الرؤوس وتدير العقول، جولة في آماد من الزمان وآفاق من المكان. وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول، جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيى بتصور آمادها الخيال، وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات... ألا إنه الإعجاز»([10]).

بعد هذا نأتي إلى عرض أقسام الإعجاز الموضوعي في القرآن الكريم، مع ضرب بعض الأمثلة لكل قسم.

* - أقسام الإعجاز الموضوعي للقرآن الكريم: 

1- القسم الأول: الإعجاز الغيبي:

يقصد به تلك الأنباء والأخبار الغيبية التي تضمنها القرآن وأوردها، مما لم تعرفه العرب، أو مما كان موجودا لدى أمم سابقة غابرة، وكذا ما سيستقبل من أحداث، مما لم يقع بعد، وكل هذا مما يتعذر على النبي محمد عليه الصلاة والسلام أن ينبئ به من عنده.

لذا كانت هذه الأخبار والأنباء من صدق نبوته، ومن الأدلة على أن هذا القرآن ليس من عنده، وإنما هو من عند الله تعالى، لأنه لا سبيل له ولا لقومه لمعرفة تلك الأمور المغيبة. فسميت بذلك بالإعجاز الغيبي.

وهي على ثلاثة أنواع: الإخبار بغيب الماضي، الإخبار بغيب الحاضر، الإخبار بغيب المستقبل.

أما الإخبار بغيب الماضي: فهو ما تضمنه القرآن الكريم من قصص الأنبياء والأمم السابقة الغابرة، ومعلومات دقيقة مفصلة عن أحوالهم وأفعالهم وأسباب هلاكهم.

أما الإخبار بغيب الحاضر: فهو ما تضمنه القرآن الكريم من إخبار عن بعض المخلوقات التي غيبت على الإنسان وهي تعيش معه، والحديث عن تفاصيل حياتها وشؤونها، كأخبار الجن والملائكة، وجنود الله المختلفة التي لا ترى. كما يدخل في ذلك إخبار القرآن الكريم عن دسائس ومؤامرات المنافقين، وما تخفيه أنفسهم من حقد وبغض للإسلام والمسلمين. وفضح نواياهم وأفعالهم الشنيعة.

أما الإخبار بغيب المستقبل: فهو ما تضمنه القرآن الكريم من إخبار عن أحداث ووقائع ستحدث في المستقبل، ثم تتحقق كما أخبر عنها القرآن الكريم([11]). 

لا شك أن هنالك أمثلة كثيرة في القرآن الكريم لكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة للإعجاز الغيبي. وسنكتفي بإيراد نماذج منها:

ـ كل ما أورده القرآن الكريم عن الأمم السابقة وعن الأنبياء والرسل وعلاقاتهم مع أقوامهم يدخل ضمن الإعجاز الغيبي؛ لكون النبي عليه الصلاة والسلام أمي، لم يجلس لتعلم قراءة أو كتابة، ولم يتصل بأصحاب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى ليتعرف منهم على ما احتوت عليه كتبهم من أخبار الأمم السابقة، وأخبار رسلهم.

لذا كان القرآن الكريم يؤكد في أكثر من موضع على هذا المسألة، بكون النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا علم له بهذه الأخبار التي ينبئه بها القرآن الكريم.

يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُو آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). سورة الجمعة،الآية: 2.

ويقول تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِن قَبْلِهِ). سورة يونس، الآية: 16.

ويقول تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمُو إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمُو أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمُو إِذْ يَخْتَصِمُونَ). سورة آل عمران: الآية 44.

ويقول تعالى: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ  اَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَـَلإِ الاَعْلَىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَىَ إِلَيّ إِلاّ أَنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ). سورة ص، الآية: 67- 70.

ويقول تعالى:(تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا). سورة هود، الآية: 49.

ـ أما عن الإخبار بغيب الحاضر فأمثلة كذلك كثيرة من ذلك:

ـ الإخبار عن الذات الإلهية: فالله تعالى موجود، ولا يرى بالأبصار، وأخبرنا عن أسمائه الحسنى وعن صفات الكمال وعن أفعاله تعالى، وأوجب على المسلم أن يؤمن بكل ذلك، يعتقد أنها حق وأنها من شرط صحة إيمانه وإسلامه.

ـ الإخبار عن الملائكة وعالمهم وعبوديتهم لله تعالى، والإيمان بهم.

ـ الإخبار عن الجان والشياطين وعالمهم، والإيمان بوجودهم معنا، واستعباد الله تعالى لهم. ومحاسبتهم على أفعالهم مثل الإنسان.

ـ الإخبار عن الجنة والنار واليوم الآخر والإيمان بكل حقائقه.

ـ الإخبار عن الموت والقبر والبعث والحساب وغيرها من الحقائق الإيمانية.

والآيات على ذلك كثيرة جدا منها:

قول الله تعالى: (_امَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُومِنُونَ كُلٌّ _امَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ). سورة البقرة، 285.

وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ ‏أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ). سورة الإخلاص.

وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَارُ ). سورة البروج، الآية: 11.

وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). سوؤة آل عمران، الآية: 185.

ـ أما الإخبار بغيب المستقبل فأمثلته عديدة، ولا شك أنها كذلك مما يثبت نبوته وصدقه، إذ أن الله تعالى أخفى معرفة الغيب عن البشر، وأنه لا أحد يدري ما سيحدث في المستقبل.

لذا نجد القرآن الكريم ينفي عن الرسول عليه الصلاة والسلام معرفة الغيب، وكونه كسائر البشر في هذا الأمر، إلا ما خصه الله تعالى به من علم بقدرته وإرادته.

يقول الله تعالى: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ). الأعراف. الآية: 188.

لذا فإن ما أنبأ به النبيء عليه الصلاة والسلام من أخبار المستقبل سيكون إعجازا إلهيا محضا لا دخل للنبي عليه الصلاة والسلام فيه إلا بالإخبار. من ذلك:

قول الله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا). سورة الفتح، الآية 27.

وقوله تعالى: (أَلَمّ، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ). سورة الروم، الآية: 1-6.

وقوله تعالى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌسَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). سورة القمر، الآية 43- 45.

2- القسم الثاني: الإعجاز العلمي.

ـ تعريفه:

هو إخبار القرآن الكريم بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا مما يظهر صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به عن ربه سبحانه وتعالى([12]).

يعرفه الشيخ الزنداني بقوله: إظهار صدق الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بما حمله الوحي إليه من علم إلهي، ثبت تحققه، ويعجز البشر عن نسبته إلى محمد أو إلى أي مصدر بشري في عصره([13]).

نلاحظ أن التعريفين ركزا على البحث في الإعجاز العلمي ليكون سبيلا إلى معرفة الله تعالى، ودالا على صدق الرسالة المحمدية، وعلى مصدرها الإلهي، وأن يكون ذلك دافعا إلى التصديق بالله تعالى والإيمان به.

كما أن تقدم العلوم وتطور المعارف التي شهدتها البشرية بعامة، والغرب بخاصة خلال هذا العصر الأخير كانت وراء التفات المسلمين إلى جانب البحث في الإعجاز العلمي، والعناية بإبراز هذا الوجه من القرآن الكريم.

اشتهر في الساحة العلمية الإسلامية عدد معتبر من العلماء الذين أفرغوا جهودهم وطاقاتهم العلمية للكشف عن أسرار القرآن الكريم وكنوزه العلمية، سواء من خلال تتبعهم لتفسير القرآن الكريم، أو من خلال انتقائهم للآيات التي رأوا أنها تتضمن إشارات إعجازية علمية، فحاولوا الإمساك بخيوطها، بربطها بما وصل إليه العلم الحديث من الحقائق في مجال موضوعها.

من بين هؤلاء نذكر المفسر الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره: الجواهر في تفسير القرآن، والأستاذ عبد الرزاق نوفل في كتاباته، والشيخ عبد المجيد الزنداني في محاضراته.

كما تطور هذا الاهتمام من الانشغال الفردي إلى الانشغال الجماعي والمؤسساتي، وعلى مستوى بعض الهيئات والحكومات والدول. حيث ظهر ما يعرف بهيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، التابعة للمجلس الأعلى للمساجد في المملكة العربية السعودية.

وهذه بعض الأمثلة على الآيات التي تضمنت إعجازا علميا:

ـ حول تكون السحب ونزول الأمطار:

قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُوَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاَبْصَارِ). سورة النّور، الآية: 43.

ـ حول تميز شخصية كل إنسان عن غيره:

قول الله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْاِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ). سورة القيامة، الآية: 3 و4.

- حول أطوار خلق الإنسان:

قول الله تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). سورة المومنون، الآية: 14

- حول أصل خلق الإنسان:

قول الله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ). سورة الطّارق، الآية: 5 - 7

وقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ). سورة المومنون، الآية: 12 و13

- حول إحساس الجلد بالألم:

قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ). سورة النّساء، الآية: 56

3- القسم الثالث: الإعجاز التشريعي.

يعني الإعجاز التشريعي ما تضمنه القرآن الكريم من الدعوة إلى الأخلاق والقيم النبيلة والرفيعة، وما أقره من نظم ومبادئ لتنظيم حياة البشرية، التي توفر لها العدل والهناء والسعادة والأمن والحرية.

هذه التشريعات العميقة المعنى والمراعية للمصالح والمنافع البشرية، والمدافعة عن الاستقرار البشري، والرادة للشرور والمخاطر التي يمكن أن تصيب النفس البشرية أو مجتمعاتها.

حيث تضمن القرآن الكريم تشريعات ونظما شملت كل مجالات الحياة الإنسانية، بداية بالجانب الإيماني النفسي العقدي، إلى الجانب التعبدي إلى الجانبي الأخلاقي التعاملي مع الغير، إلى الجانب المالي الاقتصادي، إلى الجانب السياسي، إلى الجانب الدولي، إلى جانب الطبيعة والحيوانات والكون.

يبين المفكر سيد قطب هذا الإعجاز الذي تضمنه القرآن الكريم في تشريعه وتنظيمه لمجالات الحياة الإنسانية المختلفة بقوله: « الذين يدرسون النظم الاجتماعية والأصول التشريعية، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة ... كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد، أو في جميع الأجيال»([14]).

هذه بعض حقائق وخصائص الإعجاز الموضوعي في القرآن الكريم.


([1]): مصطفى ديب البغا، محي الدين ديب مستو: الواضح في علوم القرآن، ص151

([2]): اجتهاد من الباحث لضبط تعريف للإعجاز .

([3]): اجتهاد من الباحث لضبط تعريف للإعجاز الموضوعي، أو الإعجاز في مضمون القرآن، بالاستناد إلى مصادر الموضوع. من بينها: صلاح عبد الفتاح الخالدي: البيان في إعجاز القرآن، الطبعة الثالثة، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1413هـ \1992م. ص 225- 330. مصطفى ديب البغا، محي الدين ديب مستو: الواضح في علوم القرآن، ص151.

([4]): هنالك من يضيف إلى هذه الأقسام الثلاثة ما يعرف بالإعجاز النفسي، والإعجاز العددي.

([5]): سيد قطب، في ظلال القرآن، ج3، 1788.

([6]): سيد قطب، في ظلال القرآن، ج3، 1788

([7]): الخالدي: البيان في إعجاز القرآن، ص228 ـ 231.

([8]): سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3،  1788.

([9]): عدنان زرزور: علوم القرآن، 303.

([10]): سيد قطب: في ظلال القرآن،  ج2، 1111 ـ 1113.

([11]): الخالدي: البيان في إعجاز القرآن، ص234- 258.

([12]): اجتهاد من الباحث لضبط تعريف للإعجاز العلمي.

([13]): عبد المجيد الزنداني. نقلا عن: الخالدي: البيان في إعجاز القرآن، ص262.

([14]): سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص 1785.

أضف تعليقا